فصل: فصل في {الحمد لله}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في {الحمد لله}:

قال فخر الدين الرازي:
{الحمد لله} {الذي له ما في السماوات} {رب العالمين} بحسب كل الذوات والصفات {الرحمن الرحيم} على أصحاب الحاجات وأرباب الضرورات {مالك يوم الدين} في إيصال الأبرار إلى الدرجات، وإدخال الفجار في الدركات.
{إياك نعبد وإياك نستعين} بالقيام في أداء جملة التكليفات {اهدنا الصراط المستقيم} بحسب كل أنواع الهدايات {صراط الذين أنعمت عليهم} في كل الحالات والمقامات {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} من أهل الجهالات والضلالات. اهـ.

.فصل في معاني السورة كاملة:

.قال المراغي:

سورة الفاتحة:
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)}.
السورة طائفة من القرآن مؤلفة من ثلاث آيات فأكثر لها اسم يعرف بطريق الرواية، وقد روى لهذه السورة عدة أسماء اشتهر منها: أم الكتاب، أم القرآن.
لاشتمالها على مقاصد القرآن من الثناء على اللّه والتعبد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده، والسبع المثاني لأنها تثنى في الصلاة، والأساس لأنها أصل القرآن وأول سورة فيه، والفاتحة لأنها أول القرآن في هذا الترتيب أو أول سورة نزلت.
{بسم} الاسم هو اللفظ الذي يدل على ذات كمحمد وإنسان، أو معنى كعلم وأدب.
وقد أمرنا اللّه بذكره وتسبيحه في آيات فقال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ} وقال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} وقال: {فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِكُمْ}.
وأمرنا بذكر اسمه وتسبيحه في آيات أخرى فقال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} وقال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} وقال: {وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}.
ومن ذلك يعلم أن ذكر المسمى مطلوب بتذكر القلب إياه ونطق اللسان به لتذكر عظمته وجلاله ونعمه المتظاهرة على عباده، وذكره باللسان هو ذكر أسمائه الحسنى وإسناد الحمد والشكر إليه وطلب المعونة منه على إيجاد الأفعال وإحداثها.
وذكر الاسم مشروع ومطلوب كذلك، فيعظم الاسم مقرونا بالحمد والشكر وطلب المعونة في كون الفعل معتدا به شرعا، فإنه ما لم يصدّر باسمه تعالى يكون بمنزلة المعدوم.
{اللَّهِ} علم مختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره تعالى، وكان العربي في الجاهلية إذا سئل من خلق السموات والأرض؟ يقول اللّه: وإذا سئل هل خلقت اللات والعزّى شيئا من ذلك؟ يجيب لا.
والإله اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بالحق.
{الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} كلاهما مشتق من الرحمة وهى معنى يقوم بالقلب يبعث صاحبه على الإحسان إلى سواه، ويراد منها في جانب المولى عزّ اسمه أثرها وهو الإحسان.
إلا أن لفظ {الرَّحْمنِ} يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة وهى إسباغ النعم والإحسان، ولفظ {الرَّحِيمِ} يدل على منشأ هذه الرحمة، وأنها من الصفات الثابتة اللازمة له، فإذا وصف اللّه جل ثناؤه بالرحمن استفيد منه لغة أنه المفيض للنعم، ولكن لا يفهم منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما. وإذا وصف بعد ذلك بالرحيم علم أن للّه صفة ثابتة دائمة هي الرحمة التي يكون أثرها الإحسان الدائم وتلك الصفة على غير صفات المخلوقين، وإذا يكون ذكر الرحيم بعد الرحمن كالبرهان على أنه يفيض الرحمة على عباده دائما لثبوت تلك الصفة له على طريق الدوام والاستمرار.
افتتح عزّ اسمه كتابه الكريم بالبسملة إرشادا لعباده أن يفتتحوا أعمالهم بها، وقد ورد في الحديث: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم اللّه فهو أبتر». أي مقطوع الذنب ناقص.
وقد كان العرب قبل الإسلام يبدءون أعمالهم بأسماء آلهتهم فيقولون باسم اللات أو باسم العزى، وكذلك كان يفعل غيرهم من الأمم، فإذا أراد امرؤ منهم أن يفعل أمرا مرضاة لملك أو أمير يقول أعمله باسم فلان، أي إن ذلك العمل لا وجود له لولا ذلك الملك أو الأمير.
وإذا فمعنى أبتدئ عملي باسم اللّه الرحمن الرحيم أنني أعمله بأمر اللّه وللّه لا لحظ نفسي وشهواتها.
ويمكن أن يكون المراد- أن القدرة التي أنشأت بها العمل هي من اللّه ولو لا ما أعطاني من القدرة لم أفعل شيئا، فأنا أبرأ من أن يكون عملي باسمي، بل هو باسمه تعالى، لأنني أستمد القوة والعون منه، ولولا ذلك لم أقدر على عمله، وإذا فمعنى البسملة التي جاءت أول الكتاب الكريم، أن جميع ما جاء في القرآن من الأحكام والشرائع والأخلاق والآداب والمواعظ- هو للّه ومن اللّه ليس لأحد غيره فيه شيء، وكأنه قال اقرأ يا محمد هذه السورة {بسم اللّه الرحمن الرحيم} أي اقرأها على أنها من اللّه لا منك، فإنه أنزلها عليك لتهديهم بها إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وكذلك كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقصد من تلاوتها على أمته أنه يقرأ عليهم هذه السورة باسم اللّه لا باسمه أي أنها من اللّه لا منه، فإنما هو مبلّغ عنه تبارك وتعالى كما جاء في قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ}.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} الحمد لغة هو المدح على فعل حسن صدر عن فاعله باختياره سواء أسداه إلى الحامد أو إلى غيره.
والمدح يعم هذا وغيره فيقال مدح المال، ومدح الجمال، ومدح الرياض.
والثناء يستعمل في المدح والذم على السواء، فيقال أثنى عليه شرا، كما يقال أثنى عليه خيرا.
والشكر هو الاعتراف بالفضل إزاء نعمة صدرت من المشكور بالقلب أو باللسان أو باليد أو غيرها من الأعضاء كما قال شاعرهم:
أفادتكم النعماء منّى ثلاثة ** يدي ولساني والضّمير المحجّبا

يريد أن يدي ولساني وقلبي لكم، فليس في القلب إلا نصحكم ومحبتكم، ولا في اللسان لا الثناء عليكم ومدحكم، ولا في اليد وسائر الجوارح والأعضاء إلا مكافأتكم وخدمتكم.
وورد في الأثر- الحمد رأس الشكر، ما شكر اللّه عبد لم يحمده.
وقد جعله رأس الشكر، لأن ذكر النعمة باللسان والثناء على من أسداها، يشهرها بين الناس ويجعل صاحبها القدوة المؤتسي به، أما الشكر بالقلب فهو خفي قلّ من يعرفه، وكذلك الشكر بالجوارح منهم لا يستبين لكثير من الناس.
{للّه} هو المعبود بحق لم يطلق على غيره تعالى.
{رب} هو السيد المربّى الذي يسوس من يربّيه ويدبّر شئونه.
وتربية اللّه للناس نوعان، تربية خلقية تكون بتنمية أجسامهم حتى تبلغ الأشد وتنمية قواهم النفسية والعقلية- وتربية دينية تهذيبية تكون بما يوحيه إلى أفراد منهم ليبلّغوا للناس ما به تكمل عقولهم وتصفو نفوسهم- وليس لغيره أن يشرع للناس عبادة ولا أن يحلّ شيئا ويحرم آخر إلا بإذن منه.
ويطلق الرب على الناس فيقال رب الدار، ورب هذه الأنعام كما قال تعالى حكاية عن يوسف صلوات اللّه عليه في مولاه عزيز مصر: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ} وقال عبد المطلب يوم الفيل لإبرهة قائد النجاشي: أما الإبل فأنا ربّها، وأما البيت فإن له ربّا يحميه.
{العالمين} واحدهم عالم بفتح اللام ويراد به جميع الموجودات، وقد جرت عادتهم ألا يطلقوا هذا اللفظ إلا على كل جماعة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العقلاء إن لم تكن منهم، فيقولون عالم الإنسان، وعالم الحيوان وعالم النبات، ولا يقولون عالم الحجر، ولا عالم التراب، ذاك أن هذه العوالم هي التي يظهر فيها معنى التربية الذي يفيده لفظ {رب} إذ يظهر فيها الحياة والتغذية والتوالد.
والخلاصة- إن كل ثناء جميل فهو للّه تعالى إذ هو مصدر جميع الكائنات.
وهو الذي يسوس العالمين ويربيهم من مبدئهم إلى نهايتهم ويلهمهم ما فيه خيرهم وصلاحهم، فله الحمد على ما أسدى، والشكر على ما أولى: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قد سبق أن قلنا: إن معنى الرّحمن المفيض للنعم المحسن على عباده بلا حصر ولا نهاية، وهذا اللفظ خاص باللّه تعالى ولم يسمع عن العرب إطلاقه على غيره تعالى إلا في شعر لبعض من فتن بمسيلمة الكذاب:
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا ** وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

والرّحيم هو الثابت له صفة الرحمة التي عنها يكون الإحسان.
وقد ذكر سبحانه هذين الوصفين ليبين لعباده أن ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان، ليقبلوا على عمل ما يرضيه وهم مطمئنو النفوس منشر حو الصدور، لا ربوبية جبروت وقهر لهم.
والعقوبات التي شرعها اللّه لعباده في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة لمن تعدّى حدوده وانتهك حرماته- هي قهر في الظاهر ورحمة في الحقيقة، لأنها تربية للناس وزجر لهم حتى لا ينحرفوا عن الجادة التي شرعها لهم إذ في اتباعها سعادتهم ونعيمهم، وفى تجاوزها شقاؤهم وبلاؤهم، ألا ترى إلى الوالد الرءوف كيف يربّى أولاده بالترغيب في عمل ما ينفع والإحسان إليهم إذا لزموا الجادّة، فإذا هم حادوا عن الصراط السوي لجأ إلى الترهيب بالعقوبة حين لا يجد منها محيصا، قال أبو تمام:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ** فليقس أحيانا على من يرحم

{مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قرأ بعض القرّاء مالك، وبعض آخر ملك، والفارق بينهما أن المالك هو ذو الملك بكسر الميم والملك هو ذو الملك بضم الميم وقد جاء في الكتاب الكريم ما يعاضد كلّا من القراءتين، فيعاضد الأولى قوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْس لِنَفْسٍ شَيْئًا} ويعاضد الثانية قوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}.
قال الراغب: والقراءتان وإن رويتا عن جمع كثير من الصحابة، فالثانية يكنفها من الجلال والرّوعة وإثارة الخشية ما لا يوجد مثله في القراءة الأولى، فهي تدلّ على أنه سبحانه هو المتصرف في شئون العقلاء بالأمر والنهى والجزاء، ومن ثمّ يقال ملك الناس ولا يقال ملك الأشياء: والدين يطلق لغة على الحساب، وعلى المكافأة، وعلى الجزاء، وهو المناسب هنا.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
العبادة خضوع ينشأ عن استشعار القلب بعظمة المعبود اعتقادا بأن له سلطانا لا يدرك العقل حقيقته لأنه أعلى من أن يحيط به فكره، أو يرقى إليه إدراكه.
فمن يتذلل لملك لا يقال إنه عبده، لأن سبب التذلل معروف، وهو إما الخوف من جوره وظلمه، وإما رجاء كرمه وجوده.
وللعبادة صور وأشكال تختلف باختلاف الأديان والأزمان، وكلها شرعت لتنبيه الإنسان إلى ذلك السلطان الأعلى، والملكوت الأسمى، ولتقويم المعوجّ من الأخلاق وتهذيب النفوس، فإن لم تحدث هذا الأثر لم تكن هي العبادة التي شرعها الدين.
والاستعانة طلب المعونة والمساعدة على إتمام عمل لا يستطيع المستعين الاستقلال بعمله وحده.
وقد أمرنا اللّه في هذه الآية ألا نعبد أحدا سواه، لأنه المنفرد بالسلطان، فلا ينبغي أن يشاركه في العبادة سواه، ولا أن يعظم تعظيم المعبود غيره، كما أمرنا ألا نستعين بمن دونه، ولا نطلب المعونة المتممة للعمل والموصلة إلى الثمرة المرجوة إلا منه، فيما وراء الأسباب التي يمكننا كسبها وتحصيلها.
{اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ}.
الهداية هي الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب، والصراط هو الطريق، والمستقيم ضد المعوجّ، وهو ما فيه انحراف عن الغاية التي يجب على سالكها أن ينتهي إليها.
وهداية اللّه للإنسان على ضروب:
(1) هداية الإلهام، وتكون للطفل منذ ولادته، فهو يشعر بالحاجة إلى الغذاء ويصرخ طالبا له.
(2) هداية الحواس، وهاتان الهدايتان يشترك فيهما الإنسان والحيوان الأعجم، بل هما في الحيوان أتمّ منهما في الإنسان، إذ إلهامه وحواسه يكملان بعد ولادته بقليل، ويحصلان في الإنسان تدريجا.